14 ديسمبر، 2024

يوميات قطرة الندى: حدوتة يزن والأمل لفلسطين

Img 20240505 Wa0059

كتبت: هاجر حسن 

 

إنها الخامسة صباحًا، السماء صافية بلون سمائي مُزين بخطوط بيضاء كأنها لوحة مرسومة بدقة وعناية. استعدت قطرة الندى لبدء رحلتها إلى الأرض بكل حماس.

هبطت قطرة الندى على ورقة شجرة فل، في حديقة أحد المنازل، نظرت حولها بترقب، فرأت حديقة صغيرة خلابة تفوح منها روائح الزهور التي تملأ النفس بشعور مبهج، ومنزل أبيض مكون من ثلاثة طوابق، يتوج سطحه علم فلسطين.

 

تحيرت قطرة الندى عندما رأت العلم، إذ كانت تعلم أنها هبطت بمصر. حتى قاطع حيرتها غلام في السادسة من عمره تقريبًا، يركض في الحديقة حتى وصل إلى شجرة الفل، ثم تحدث إلى رجل كبير في السن، تزينه لحيه تنصاع بالبياض، ووجه مبتسم مشع بالنور.

ثم قال الغلام بصوته الطفولي البريء: “لقد أتيت يا جدي، أنه موعد الحدوتة وأنا مستعد، هيا بنا.”

ضحك الجد ثم قال: “على مهلك يا يزن، اجلس أولًا بجواري وخذ أنفاسك يا فتى.” ابتسم يزن وجلس بجوار جده، ثم قال: “هيا يا جدو كُلي آذان صاغية.”

 

تحمست قطرة الندى للحدوتة، فهي تعشق القصص. وتابعت المشهد وهي جالسة فوق ورقة شجرة الفل.

 

قال الجد: “كان يا ما كان وما يحلو الكلام إلا بالذكر النبي، عليه أفضل الصلاة والسلام.” فردد يزن وقطرة الندى: “عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام”

تابع الجد: في عصور قديمة، حيث زمن الأنبياء والمرسلين، كانت هناك أرض طيبةٌ خضراء، يشع منها الأمان والسكينة. كانت مقدسة يأتيها الزوار من أنحاء العالم، فقد استوطنها معظم الأنبياء، وأسرى منها النبي محمد إلى السماء السبع حيث قابل الأنبياء والمرسلين وصلى بهم جميعًا. كان يزيدها حُسنًا وقادسية، ‘المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثاني المسجدين، حيث إنه ثاني مسجد وضع في الأرض.’ فقاطع يزن جده مُتسائلًا: وما هو أول مسجد وضع في الأرض يا جدي؟ فقال له الجد: “إنها الكعبة الشريفة يا يزن، هل نسيت؟”

 

تابع الجد قائلًا: كانت تشع منها رائحة الزيتون، يعيش سُكانها بأمان وسلام، أطفالها مثل الفراشات في خفتهم وبراءتهم، ينتقلون بين أغصان الزيتون يجمعونها مع أهاليهم وهم مسرورون.

كان شبابها يتسابقون كل صلاة إلي المسجد الأقصى، ليزدادوا ثوابًا، تمتلئ أنفسهم بالسكينة.

 

كانت هذه الأرض تشع سماؤها بالسلام والإسلام، يسكن الحمام على أرضها باطمئنان. كانت ملاذًا آمنًا للزوار، لا يأتي أرضها أحد ألا تعلق قلبه بها، وكأن بها مغناطيسًا يجذب القلوب إليها من حُسنها والسكينة التي تشع من أرضها وشعبها.

لكن في يوم ضبابي عاصف بعد الحرب العالمية الأولى، أخذ مجموعة من اليهود بالهجرة إلى هذه الأرض، مجموعة وراء مجموعة، إلى أن تكاثفوا بالأرض الطيبة.

تحمس يزن كثيرًا وقال: وماذا حدث بعدها يا جدي؟

قال الجد: “تحول كل شيءٍ يا يزن، فهؤلاء اليهود منذُ أن هبطوا على هذه الأرض الطيبة حتى طمعوا بها، وتعاونوا على أن يسرقوها من أبنائها وأهلها.

طمعوا بحقول الزيتون، وهوائها النظيف، والمسجد الأقصى.”

أردف يزن متأثرًا ومتحمسًا وماذا بعد يا جدي: قال الجد: لم يكتفوا بذلك يا يزن: بل طمعوا بالديار، طمعوا أن تكون هذه الأرض فقط لهم، فتعاونوا على أن يطردوا أهلها منها.

 

قال يزن ببراءة: “لكن يا جدي هذا ظلم، قبح”

تابع الجد: هؤلاء البشر يا يزن لا دين لهم ولا يعترفون بالصواب من الخطأ، لقد كانوا مثل الجراد، متى هبطوا على أرض حولوها إلي خراب.

وهذا ما فعلوه بالأرض الطيبة، أحرقوا أشجارها، وسرقوا خيرها، وسجنوا شبابها، وقتلوا أطفالها خوفًا من أن يكبروا ويقاوموهم.

هكذا تحولت الأرض الطيبة من السكينة والسلام إلي الخوف والفزع وعدم الأمان.

 

أمسك يزن يد جده متأثرًا ثم قال: وماذا بعد؟

حضن الجد يزن، ثم قال: “لم يستسلم شعب فلسطين الباسل، فأخذ يقاوم ويحارب هؤلاء المستعمرين، حتى يطردهم من أرضه، وإن ظلوا يقاتلونهم لآخر أنفاسهم. إنهم يناضلون من أجل حرية أرضهم إلى يومنا هذا.”

 

قال يزن: “هل لذلك أنت معلق بهذا العلم على سطح البيت يا جدي؟” قال الجد: “نعم يا يزن، قضية فلسطين وانتمائنا لها يجب أن يدركها ويفهمها كل عربي، طفلًا كان أم كبيرًا. يجب ألا نتناسى قط مسؤوليتنا اتجاههم.”

قال يزن: وما هي مسؤوليتي يا جدي نحوهم؟ مسح الجد على رأس يزن وقال: إن تدعو لهم من قلبك في كل صلاة، وأن لا تشتري أي طعام أو حلوى صنعها هؤلاء المحتلين الأشرار.

قال يزن: أعاهدك يا جدي أن أدعو لهم دائمًا، وأن أقاطع حلوى الأشرار. ابتسم الجد وأخذ يزن في أحضانه، وقبل رأسه ويديه.

 

بكت قطرة الندى متأثرة، فسقطت دموعها على وجه يزن، فنظر الجد إلى السماء وقال: انظر يا يزن، حتى السماء تسمع قصتنا متأثرة فسقط منها الندى، كأنها تذكرنا يا يزن: “مهما كانت السماء غائمة، الشمس لا تغيب، تعود وتشرق من جديد.” وهكذا فلسطين ستعود وتشرق من جديد.

 

نظر يزن إلى العلم فلسطين المرفرف فوق البيت وقال: “لن أنسى هذه القصة يا جدي، وسأكبر وأروي قصة فلسطين للعالم أجمع، لن أستسلم مثل الشمس حتى تتحرر فلسطين.”

ابتسم الجد وضم يزن إلى صدره، قائلًا: أنا فخور بك وبذكاء رغم صغر سنك، مهما كانت التحديات، ابق متمسكًا بالحق والعدل والأمل.

 

شعرت قطرة الندى بالدفء في قلبها، وهمست للرياح، فحملتها إلى البحر حيثُ تعانقت مع أشعة الشمس وأنهت رحلتها وحملت مظلتها وصعدت إلى السماء محملة بدعاء يزن وجده لفلسطين.

عن المؤلف