كتبت: هاجر حسن
الظلام يعم المكان من حولي، أنفاسي تعلو وتهبط، والتراب كثيف يكتم الهواء عني، لا أرى غير سواد، ولا أشعر سوى برائحة التراب.
“هل مت ودفنت أنا؟” سألت نفسي!، ولكن أين ملك الموت؟ أين منكر ونكير؟ أين أنا؟
ارتجف خوفًا من هذا السكون القاتم، وبدأت أتحدث بصوت مرتفع أنادي: “أبي، أمي، عبدالله، هل من أحد هنا؟ هل من أحد يسمعني؟” لم تأتني أي إجابة، أو أي مصدر لأي صوت. هل مت حقًا؟ تساءلت مرة أخرى
أغمضت عيناي، محاولًا التذكر: ” إنها الواحدة صباحًا بعد منتصف الليل، نراقب دقات الساعة، الصمت يعم المكان، فإذا سقطت إبرة ستسمع رنينها. صمم والدي في هذه الليلة أن نجلس تحت طاولة الطعام سويًا إلى أن يأتي ضوء الفجر، كان القلق يطفو على ملامحه كغير عادته، فهو دائمًا ما يطمئنا، لكن الأمر مختلف بهذه الليلة.”
جلسنا سويًا تحت الطاولة، أنا وأبي وعبد الله أخي، وأمي مرتدية حجابها تمسك مصحفها وتتلو القرآن بصمت. الجميع صامت، إلا أن قاطع أبي الصمت وقال بصوت خافت: “عُمر أوصيك بأخيك خيرًا، كن له خير أخ ورفيق، أخيك الصغير وصيتك.”
انخلع قلبي مما أسمع ، وقلت له أبي، ما بك؟ نظر أبي لي ولم يجبني بل امسك يدي ووضعها بيد أخي الصغير الذي لم يتعد الخمس سنوات. نظرت له متفهمًا، فقاطعني صوت قنابل عنيفة هزت السماء وهزت أركان البيت، وعم الصمت المكان.
يا ليتني ما تذكرت، يا إلهي”أنا تحت الانقاض، انا تحت حطام البيت.” صرخت عاليًا: أبي، أمي، أخي، لم يجبني أحد.
بكيت وبكيت، يمر الوقت أو لا يمر في هذا الظلام وهذا التراب الذي يكتم الأنفاس برائحة كريهة تشبه رائحة الموت، لن تميز أي شيء.
يكاد قلبي يخرج من مكانه فزعًا، الخوف يحاول افتراسي كأسد جائع. تذكرت حديث أبي: “القرآن اجعله صاحبك يا عُمر في فزعك.” حاولت أن أتلو بعض الآيات، “يا إلهي أنا لا اقدر على التذكر، كأن عقلي حدث به ثقبًا فتسرب كل ما احفظ من عقلي.”
بكيت وبكيت، “يا الله ساعدني”صرخت، ثم وكأن هبطت عليا سكينة، فتذكرت قول الله تعالى في سورة الأحقاف:”إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فظللت أرددها، ثم تذكرت قول سيدنا يونس: ” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين”.
قاطع تلاوتي صوتًا منخفضًا، حاولت التحرك بجسدي المثقل من أثر تكاثف التراب عليه، وأزحت خشبة الطاولة من فوقي. نديت هل من أحد هنا؟ كررتها ثلاث مرات، لم يجبني أحد. ها أنا بدأت بالهلوسة. تمنيت الموت، تمنيته حقًا، استسلمت له، أغمضت عيني وكأنني انتظره.
عُمر، عُمر هل أنت هنا؟ يا الله، هل ما تسمع أذناي صحيحًا أم أصابني من جديد التهيؤات والهلوسة. تكرر الصوت عُمر هل تسمعني؟، بكيت وصحت صارخًا: “نعم أخي، نعم عبد الله،” أسمعك أنا هنا، تحدث ارفع صوتك حبيبي، حتى أميز أين مكانك يا أخي.
قال لي: أنا خائف، أنا خائف كثيرًا،
لا تخف عبد الله: سوف أتي إليك، تحركت زاحفًا من مكاني، لا أدري من أين لي بهذه القوة، زحفت نحو صوت أخي إلي أن وصلت إليه، تحسست يده في هذا الظلام القاتم، مسكتها وشددت عليها، قبلتها دون أراها.
قلت له: أين أبي وأمي؟ هل سمعت لهم صوتًا، هل هم بقربك؟ فأجاب عبد الله: لا، لا أدري أين هما، ثم بكى.
لا عليك أخي، -بإذن الله- سوف نجدهم، الوقت يمر، حتى ولو لم أعرف ما الساعة الآن، لكنه بالتأكيد يمر فهو لا يتوقف من أجل أحد. الظلام يحيط بنا مثل أشباح تحاول أن تقتلك ببطء مميت. رائحة التراب المختلطة بالموت تكاد أن تفقدنا الأكسجين الباقي بالرئة، يدي ممسكة بقوة بيد أخي، لا نتحدث فقط نتمتم بالأذكار.
شعرت بالإغماء والدوخة، إلى أن أيقظني صوت يرن تحت الأنقاض بصدى يخترق الأذن، “عُمر؛ انهض وحاول الخروج، عُمر، عبد الله وصيتك.”
أبي، أبي، أهذا أنت؟ لم يجبني أحد، ثم قاطعني صوت عبد الله، “ما بك يا عُمر لمن تتحدث؟ قلت له: ألم تسمع صوتًا؟! قال: لا يوجد غير صوت الصمت والخوف الذي يحيط بنا وبكي.”
نظرت حولي، تحركت من مكاني، ادفع التراب والحجارة من حولي، لا أعلم من أين أتتني هذه القوة، لكن وصية أبي تتردد في أذني.
إلا أن قاطع حفري للحطام، صوتًا من الخارج، هل من أحد هنا يسمعنا؟ بكى عبد الله هنا، هنا، نحن هنا أرجوكم ساعدونا.
أخذ صوت الحفر من الخارج يقترب، لم أكن أصدق بأنه سيأتي يوم أحب صوت الضوضاء عن الهدوء، أخرجنا رجال الإنقاذ من تحت الأنقاض ببطء، باذلين جهودهم حتى لا نتأذى.
نور الصباح، يا الله أنه النور قد رأيناه من جديد، مسكت عبد الله بيدي،حضنته بقوة، ثم سألت المسعفين ، هل رأيتم رجلًا وامرأة؟ أجابوا لا أنتم فقط من أخرجنا. ذهبنا لعربة الإسعاف حتى يطمئنوا علينا.
الأمل ضعيف، لا أثر له، الحفر يشتغل، المناداة بصوت صاخب، يخرج من تحت الأنقاض البعض من جيراننا، الظلام اقترب، الأمل يتلاشى، دموع عبد الله، رجفته لا تنقطع.
قلبي تتسارع دقاته، الظلام قد حل، ذهب رجال الإنقاذ، المسعفين ، رحل الجميع. ظللنا أنا وأخي فوق الأنقاض نبكي، ندعو الله أن يحفظ روح أبي وأمي. أبونا أن نترك المكان.
غفونا فوق الحجارة، ثم أيقظتنا أشعة الشمس التي أصرت أن تهبط على أعيننا حتى توقظنا.
الرجال المنقذون قد جاءوا، الحطام، الدمار، منزلنا المحطم تحت الأرض، الفوضى تعم المكان، الخوف ينتشر أكثر من انتشار الأكسجين بالهواء.
إلى أن جاء الخبر الذي تمنيت لو كنت متُ ولم تسمعه أذناي، “لقد توفى والديك”، جملة كالخنجر الحاد الذي يرشق بمنتصف القلب، لا يقتلك، بل يتركك جريحًا تنزف طوال العمر.
مات أبي، ذهبت روح أمي، لا أدري هل أبكي من أجلهم؟، أم أحمد الله أنهم رحلوا إلي الجنة، وارتاحوا من خوفهم، حزنهم، صوت القنابل، والرصاص. هل أصرخ لفقدانهم؟، أم أضحك لأنهم كتبوا في منزلة الشهداء.
الموت في غزة يترك لك شعورين متضاربين، يجعلونك مثل المجنون لا تعلم أو تفهم أي شيء.
مسكت يدا أخي الباكي، المرتجف، حبست دموعي بكل قوتي، رددت: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ذهبت أنا وأخي تركت وراءنا الدار المهدم، بأمل طفيف أن نرجع نعيد بناءه في يوم من الأيام، ذهبنا تائهين، محطمين، دموعنا بقلوبنا، لنجد مكانًا يؤوينا في المخيمات نحتمي به. الليل ظلام وكوابيس عبد الله التي لا تنتهي، والنهار شمسًا تحاول أن تعطيك بعد الأمل، الناس في المخيم يحاولون بكل جهدهم التمسك بالحياة كأنهم لا يعرفون طريقًا لليأس.
لا أدري ماذا سيحل بي أنا وأخي غدًا، لكنني سأفعل كل ما بوسعي لمراعاته إن كتبت لي العمر، لا أدرك الآن غير كلمات أبي التي ترن في أذناي:
“وإن حطموا كل الديار، وإن قتلوا المزيد من الأرواح، ستبني غزة من جديد، سننتصر، ونهزم الأعداء”. كانت هذه جملة أبي الشهيرة، التي حفظها الحي بأكمله بل كل الأحياء، فكان أبي خيرُ إنسانًا، ومعلمًا متفائلٍ، معطاء.
المزيد من الأخبار
تمني الفصل الثاني الجزء الخامس
كائنات لطيفة
ولنا مع الاكتئاب حكاية