5 ديسمبر، 2024

العيش حياة وللرسالة بقية

Img 20240405 Wa0017

كتبت: سارة صلاح

نظرة الفخر في عيني أمي كانت اللحظة الأسعد لي على الإطلاق، وها هي تتقدم نحوي لتشملني بحضنها الدافئ،
أحاطتنا الهتافات من كل جانب، شعرت حينها أن ذبذبات قلبي مسموعة في كل مكان.

في غرفة لا ينير ظلمتها سوي ضوء خافت، يجلس منذ ست ساعات على هاتفه النقال يتنقل بعشوائية على صفحات الإنترنت.
قد دق باب غرفته:
يا سامح، اخرج يا بني من هذه الغرفة، وشاركنا الطعام.
اتركيني يا أمي خمس دقائق فقط.
ردت أمه متذمرة بصوت حنون: أأنت تخبرني بذلك منذ الصباح!
في عصبية زائدة رد سامح: ألن تتركوني يومًا أحظى ببعض خصوصيتي في هذا البيت؟!
نظرت الأمة نظرة يعلمها سامح جيدًا: ستخرج أم أنادي أبيك؟
حسنًا، حسنًا سأخرج.

سامح متوددًا إلى أبيه: أتعلم كم أحبك أبي، لقد سمعت أنك فزت على العم أحمد في مبارزة الأيدي.
أتريد شيئًا بني، فهذه المقدمة أسمعها منك عندما تريد شيئًا.
سامح مقهقهًا: دومًا تفهمني يا أبا سامح، يديك على ألفي جنيه.
ماذا ماذا؟ ألفي جنيه!
أتراني أعيش من بنك؟
سامح متذمرًا بدلع: أبي أنسيت أني ابنك الوحيد؟
الأب بخشونة: لا لم أنسَ بالطبع أنك من تضيع أموالي كل شهر.
لينظر سامح ذي العشرين عامًا في ازدراء وعيون دامعة؛ فيضعف الأب أمام عينيه البريئتين؛ فيعطيه المال.

صوت ارتطام رأسه على الطريق الصلب، سيل دماء، صرخات تعلو، سيارة الإسعاف تجري وكأنها تسابق الريح لتنقذ روحًا على وشك الموت، أو كما ظنوا ذلك.
كان هذا الحادث في منتصف الليل بإحدى مدن الأسكندرية، حيث دق هاتف الحاج عبد الحميد، كانت دقات الهاتف تشير بخطر كبير، فأي شخص هذا يرن في هذه الساعة!
نعم، معك عبد الحميد، قائلا ذلك بتوتر، شاعرًا بكتمة بصدره.
سامح ولدي أنا أصابه حادث، ولدي أنا، صرخ عبد الحميد وهو يشعر بأن خنجرًا باردًا يمر بصدره.
بأي مستشفى ولدي؟

وبعد مرور شهر من الحادثة، كان سامح جالسًا على كرسيه المتحرك بحديقة منزله.
كان يشعر بأن العالم يطبق على صدره كخرم إبرة؛ فقدَ قدميه بسبب حادث على طريق، يتذكر أيامه الماضية، وكيف أنه كان يتحرك هنا وهناك مع رفاقه؟ فانهمرت دموعه على خديه من شدة القهر على نفسه.
تذكر سامح كيف أنه عاش بلا هدف؟ كان فارغًا من الداخل، يلهو مع أصدقائه يوميًا.
يشعر بصدمة كبيرة؛ فلقد تركه رفاقه منذ معرفتهم بإعاقته!
أصبح الرفيق الأساسي هو الكرسي المتحرك.
سامح بألم شديد: أين هاتفي؟ فقد كان يسعدني؟
سألت نفسي من أنا؟ وما السبب في وجودي هنا؟!
لم يحركه الحادث إلى التغير، أو عمل شيء، لكن شعر بندم شديد، وكره لذاته.
فجأة شعرتُ بيد خشنة على كتفي؛ فأدرت وجهي؛ فإذا بوجه شديد البياض، بابتسامة واسعة، يسألني الجلوس بجانبه؛ فنظرت إليه متعجبًا؛ فأنا جالس على كرسي متحرك؛ فكيف له بأن يسألني هذا؟
سألني مرة أخرى بصوت رخيم فيه بحة أراحت سمعي: ساعدني في لصق أوراق الشجر الخضراء في هذا الدفتر؛ فأنا أجمع أوراق الأشجار المختلفة لألصقها فيه،
ترددت لثوانٍ في مساعدته، وهممت في التحرك بكرسيّ المتحرك بعيدًِا عنه؛ فرفع يديه بورقة خضراء مكتوب عليها( اهرب من عالمك مجهول المعالم) فتصنمت ملامحي، ودق قلبي سريعًا، وامتلئت عيني بالدموع، واهتزت شفتاي كطفل صغير، وتماسكت سريعًا، سائلًِا إياه :من أنت؟وماذا تريد مني؟
رد الرجل بابتسامة: أنا أريد مساعدتك فقط في لصق الأوراق،
صمت ُ قليلا ثم قلت: حسنًا لأساعدك في لصق الأوراق؛
فابتسم الرجل ابتسامة ظننت بأنها ماكرة بعض الشي!
مرت ساعات ونحن نلصق في الأوراق، شعرت حينها بأن الأوراق لن تنتهي أبدًا، لكني حقًا استمتعت، فقد تخلصت من عزلتي قليلًا، تعالت أصوات ضحكاتنا.
فجأة الأوراق التي نلصقها بدأت بالطيران، كانت تتطاير وكأنها طائرًا، كان أمرًا عجيبًا حقًا كأنه سحر!
شعرت بخوف شديد، ضاقت أنفاسي،
انتهى الأمر بسرب من الأوراق الخضراء يتطاير من حولي، وفجأة وجدت الأوراق تحملني؛ فشعرت بقلبي قد سقط بين قدمي.
صرخت بأعلى صوتي حتى يساعدني الرجل الذي جلس بجانبي، لكنه اختفى كالسراب.
فصرخت عاليًا:أماه، أماه، أنقذيني، لكن لم يسمعني أحد.
ظلت الأوراق ترفعه، وترفعه حتي بلغ عنان السماء، وحفته السحب الصافية من كل جانب؛ فتناسى مخاوفه، وظل يتأمل ما حوله، متنفسًا الهواء النقي، الذي يخلص روحه من الآثام.
وفجأة سمع صوتًا بقلبه يخبره، ألن تستيقظ من غفلتك يا سامح؟!
هل ستظل لاهيًا عابثًا؟ أم ستظل مكتئبًا نائمًا؟ أهكذا أنت؟
فجأة شعر سامح بيد تربوا بحنان على ظهره؛ ففتح عينيه ببطء؛ فوجد نفسه بحديقة بيته على كرسيه المتحرك بجانبه ورقة خضراء مكتوب عليها “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” البقرة
“لا تحزن إن الله معنا”
شعر سامح ببرودة تسري بأطرافه، رفع عينيه الباكية للسماء قائلا بكل صوته:يا الله، يا الله!
من بعد هذا اليوم طلب من أمه أن تعلمه الصلاة، وعند أول وضوء شعر بأن كل عضو منه سينفصل عنه من شدة الرهبة، ومع أول سجدة شعر بأن قلبه قد انخلع من مكانه؛ فانهمرت دموعه، الدمعة الساخنة تلو الأخرى، ونادي ربه بكل كيانه أن يخرجه مما هو فيه، وأن يدله على النور، وأن يعلم لم خلق، وما الهدف من حياته؟

في مركز الشباب والرياضة لذوي الإعاقات الأسكندرية، يقف والد سامح بجانب ابنه حيث أصر سامح على المجيء مبكرا؛ ليقدم بنادي رفع الأثقال.
ظل سامح يتدرب بالنادي لمدة ثلاثة أشهر، فقد خصص ستة ساعات بالنادي كل يوم لممارسة رياضة رفع الأثقال.
كان في نهاية كل يوم يشعر بأن جسده أصبح أقوى، وتناسى سامح كل الحزن، والملهيات التي ضيعت حياته.
لاحظ المدرب تميز سامح، وعزيمته القوية في التدريب؛ فقرر أن يجعله ينضم للمباريات، وأن يكون له فرص أكثر؛ فشعر سامح بالفرح الشديد، وشارك في مباريات عدة، وفاز فيها.
لكن لسوء الحظ قد انكسرت يده بمباراة ما؛ فتوقف عن المباريات والتدريب لفترة؛ فشعر بالحزن، لكنه تذكر لطف الله به، وما كان عليه سابقًا.
بإحدى المسابقات العالمية، هناك صوت يطرب القلوب، تتلذذ بعذوبته الآذان وكأنه وحي من السماء، يرتل القرآن حتى وصل إلى قوله: “الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكوة فيها صباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم” 35 سورة النور.
هذا القارئ في وجهه الوضاءة، وفي عينيه يقين بالله بأنه سيغيره للأفضل، وبأنه معه دومًا، وإن قد كان بعيدًا جدًا في الماضي؛ فأخذه الله إليه، وصبر عليه، ورحمه من الظلمة التي قد عاش فيها طويلا.
يقف معلن فائز مسابقة القرآن ناظرًا إلى الوجوه المتأهبة لمعرفة الفائز: (أعلن لكم الفائز بالمركز الأول في مسابقة القرآن العالمية إنه : سامح عبد الحميد السويد من دولة مصر الحبيبة)..
هنا لم تحملني قدمي؛ فقد شعرت بأنه لا يوجد من هو أسعد مني على وجه الأرض؛ فمن وسط مئات الآلاف تم اختياري بالمركز الأول، فما ألطفك يا الله!

تذكرت حينها أن من ترك شيئًا لله عوضه الله بخير منه؛ فقد تركت عالمي المظلم إلى نور الله ومعيته؛ فشملتني معية الله، وجبره لي.
هرولت أمي إليّ بدموعها المتطايرة، مع ابتسامة واسعة ؛ فرأيت في عينيها نظرة فخر؛ فشعرت برفرفة في قلبي هزت كياني؛ فأسرعت روحي إليها واحتضنتها، حينها شعرت بأني قد حققت هدفي من هذه الدنيا.
منذ سنتين كسرت يدي كما تعرفون؛ فتوقفت عن رياضة رفع الأثقال، وفي خلال إجازتي المرضية التحقت بإحدي مراكز حفظ القرآن، وقد كان هدفي أن أخرج من هذه الإجازة وقد حفظت كتاب الله؛ فظللت عاكفا على حفظه مع تدبره؛ فغير مني، ومن أسلوب حياتي؛ فتيقنت وقتها بأن القرآن هو أسلوب الحياة.
النهاية.
إهداء إلى كل من ضلوا الطريق، إلى من لم يجدوا غاية من وجودهم، إلى من لم يحدد هدفًا،
اطمأن، وقم الآن، لم يفت الوقت، اصنع لنفسك يوما سعيدا، واغرس زرعك؛ لتحصد كما حصدوا؛ فهم ليسوا أبطالا خارقين، وأنت لست بذرة فاسدة .
الفوائد من القصة
1)اجعل لك صاحبا يعينك على الطريق؛ فالهاتف لم يكن صاحبا يوما.
2)حدد لك هدفا، وابدأ بتحقيقه تدريجيا.
3)اجعل لك قصة نجاح يتعلم منها غيرك.
4)لا تنتظر شغفك، بل اعمل وسيأتي الشغف.
5)لو كنت قصة في كتاب، ماذا تتوقع أن أن يكتب الناس عنك؟!
6)بر والديك، وامتن دائما لهم ؛ فهم سبب من أسباب وجودك في الحياة.
سارة صلاح” مرفرف بجناحيه.

عن المؤلف