كبدة اسكندراني

Img 20240322 Wa0014

كتبت: إنجي أحمد

في صباح كل يوم أستيقظ على صوت العصافير باكرًا، أفتح نافذتي إذ بشعاع الفجر يلوح من بعيد معلنًا بدء يوم جديد، فأبدأ يومي بالصلاة والدعاء لزوجي وأولادي الثلاثة الصغار.

وبينما تداعب شمس الشروق بأشعتها عيون صغاري أسبقها بغيرة منها ليستيقظوا على صوتي، فأحظى بابتسامات بريئة ترسل للنفس رسائل حب ورضا، وأحضان تشتاق لها الأضلع شوقًا وحبًا، أتوجه قاصدة غرفة نومنا لأوقظ زوجي، فأهمس لأطفالي كي يستيقظ على أصوات أجمل من صوت العصافير المغردة، فيستسلم للنهوض؛ لبدء رحلة الشقاء والكفاح والعمل.

يخلو لي البيت فجأة بعد صخب الصباح، وأتفرغ لأعمالي الشاقة المؤبدة التي أقوم وأقوم بها دون كلل أو ملل وعن طِيب نفْسٍ وخاطر.

كنت ربة منزل ترعى شئون بيتها وزوجها وأولادها الصغار، إلى أن حان القدر وشاء، دق جرس الباب معلنًا بحدوث خطب ما، أسرعت مهرولة لأجد زوجي يتهاوى بين أيادي الحاملين، كيف لتلك الحياة أن تفاجئنا بخطُوبها، لولا رحمة الله علينا حقًا لهلكنا في تلك الحياة.

حين دق جرس الباب معلنًا عن مفاجأة لم تخطر لي على بال،أصبح زوجي في يوم وليلة طريح الفراش، لم يسعفني الحظ لأكون حاملة شهادة عليا، ولم توافيني الحياة بخبرة لأجل عمل يساعدني لكى أحيا- أنا وأولادي الثلاثة وزوجي- حياة كريمة، دون مد يد الحاجة طالبين يد العون.

أصبحت مسؤولة مسؤولية كاملة عن البيت، فأصبحت رب البيت لا ربة البيت فحسب، أخذت على عاتقي تربية أولادي و رعاية زوجي، لا أتضجر لأمري ولا أسخط على قدري كلا وحاشا، ولكن لحظاتي الأولى مع صدمتي أَوحت إلىّ عدم قدرتي، واوهمتني بالوهن أمام مسؤوليتي، أعلم أن الحياة تأتي رياحها بما لا تشتهي سفننا، ولكن الإيمان الصادق والتوكل على المولى حق التوكل والسعي الدؤوب سلاح أمام الصعب والمستحيل

أسلمت الأمر لخالقي ووضعت يدي على راحتي، وقصدت مطبخي لأعدَّ الطعام، وأثناء إعدادي للطعام إذ بزوجي يناديني وكأن القدر الجميل يستدعيني طالبًا إياي، أُسرع إليه إذ به يثني على رائحة الكبدة الاسكندراني، قَبّلتُ جبينه فقد طرق بفضله لي فكرة لمشروع صغير ليدرَّ لي رزقًا.

سخّر لي المولى جنوده المجندة بالأرض والسماء، وهممت بمشروعي، أستيقظ باكرًا من أجل الصغار ومدرستهم، أرجع للبيت لرعاية زوجي لحين عودة أبنائي، أعد الكبدة الاسكندراني لأبدأ يومي و أسعى لرزقي.

ما زالت رائحة الكبدة الاسكندراني التي أعدَّها بخلطتي السرية تداعب أنوف الجياع، تلك المهنة التي أُوحِيَت إلىّ من زوجي، تلك المهنة التي منحتها لي الحياة من محنتها، تمر الأيام وكأني معقودة الجِيد بساقية تدور بي، وأدور معها فتمر السنون، أفقد زوجي وأصبح بدون رفيق للحياة ، أسير بدربي بمفردي ومعي مسؤولة على عاتقي، أنهض بها دون كلل أو ملل.

تمر الأيام وتكبر الصغار، منهم من تزوج وسافر مع أبنائه وزوجته، ومنهم من سافر لاستكمال دراسته بالخارج، ومنهم من يسعى كي يساعدني، فقد أصبحت بالعقد السادس، وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا، ولكن باستطاعتي العمل والعطاء، وكيف لي أن أعتزل مهنتي وقد أصبحت الآن أسيرة الوحدة من بعد وفاة زوجي، كيف لي أن أترك أفواه فاغرة من جوع؟! وبطون آلمتها قلة الزاد؟!

لن أترك مصدر رزقي وجه سعدي وصيانة كرامتي أنا وأولادي وزوجي حتى بعد وفاته، لا تستهينوا بامرأة مرَّ عليها من الخطوب ألوانًا، طوّعَتْها الظروف لتكون أصلب من لوح الحديد، تقابل تقلبات الحياة بدرعها المتين، تحمل على أكتافها جبالًا وهى راضية النفس والخاطر، على استعداد تحمل الأكثر من أجل من تحب.

عن المؤلف