البيروقراطية والملوخية وجهان لعملة واحدة

Img 20240314 Wa0374

كتب: أحمد حمزة «القاهرة»

14/3/2024

عائدًا إلى بيتي بعد يوم شاق طويل وممل -بعض الشيء- في الجامعة تحديدًا في كلية الألسن حيث الرطانة بأكثر من لسان، واللَجاج بأكثر من لغة حية، وغير حية.. مستقلًا صديقي في هذه المرحلة من عمري ألا وهو المترو، أكتب وأفكر وأقرأ وأذاكر وأنا بداخله.
-يا رجل، أنا أكبر وأنضج فيه!
وبعد كل هذا تستغرب قولي:

إن المترو صديقي؟

دخلت عربة المترو المزدحمة وجلست أو بالأحرى وقفت، فالجلوس في مترو الأنفاق حلم لا يحدث إلا إذا وقع شيئًا غير معتاد، شيئًا خارقًا لطبيعة كطلوع الشمس من مغربها مثلا!
وأخذت أبحث عن سماعة الأذن؛ علها تقيني صخب الناس من حولي، خصوصًا رجلين جلسا جوار بعضهم البعض، ومنهمكين في الحديث، أظنه مهم من تعبيرات وجههم وحركة أيديهم، لكن يكفي ما سمعته في الجامعة من أصوات مختلطة، دعك من هذا، يكفي ما بداخلي من أصوات تأبى أن تصمت!

أثناء بحثي عن سماعتي تذكرت طلب أحد أساتذتي في القسم الألماني
بأن أحضر له إذنًا مكتوبًا لا شفهيًا من رئيسة القسم بعد ذلك؛ حتى يسمح لي بالحضور في مجموعة غير مجموعتي
وحتى أتشرف بمقابلة رئيسة القسم يجب على النزول في يوم لا محاضرات فيه:

فجدولي يوم السبت خاوٍ على عروشه -الحمد لله-

وربما أنزل مخصوصًا لذلك، وتكون سيادتها مشغولة في أمر ما، أهم بطبع من تصريح مكتوب لطالب من أصل ما يزيد عن ألف طالب في القسم! ولو كل طالب ذهب لمقابلة رئيسة القسم في أمر يهمه ستحتاج إلى يوم عدد ساعتها 84 مثلا، وقد لا يكفي أيضا!

وحتى فرضًا إن ذهبت، وسنحت الفرصة للمقابلة، ربما ترفض السكرتارية السماح لي بالدخول.
أهذا هو النظام ويجب على أن أحترمه، أم الأساتذة في القسم الألماني درسوا الألمانية حد الانغماس لدرجة تأثرهم بالبيروقراطية الألمانية؟
والبيروقراطية ليست بالطبع شيء إيجابي بحت، بالعكس، أتذكر تصريحًا لكريستيان فلوتر-هوفمان، الخبيرة في معهد كولونيا للأبحاث الاقتصادية –دعك من اللقب؛ كلنا أولاد تسعة

 

ذكرتْ فيه بالنص

“ولع الألمان بالمعاملات الورقية والأختام، حتى وأن توفرت بدائل إلكترونية أسهل وأيسر”

فالبيروقراطية إذن شيء سلبي أيضًا وفي ألمانيا سلبي وممل
-لا تخبرني بأنك لا تعرف ما البيروقراطية من الأساس! وحتى أكون صادقا معك، أنا أيضًا جميع المسميات تلك تصيبني بالغثيان!
(أشي) بيروقراطية (وأشي) بورجوازية (وأشي) أرستقراطية (وأشي وأشي )
أظن يسمون مثل هذه المصطلحات بالأسماء المنسوبة أو المصدر الصناعي.
دعك من كل هذا الهراء، سأنبئك بتأويل ما البيروقراطية؛ لأنك حبيبي، لكن استخدمها ولا تخبر أحدًا بمعناها، وكذلك لا تخبر أحدًا بأني أخبرتك ما البيروقراطية، وإن سألك أحدهم ما البيروقراطية استنكر سؤاله، وأشح بوجهك عنه.

البيروقراطية لغويا تعني “سلطة/حُكم المكتب
واصطلاحًا تستخدم لدلالة على التقيد الحرفي بالقانون والتمسك الشكلي بالظواهر التشريعية
حيث الروتين والإجراءات التي لا حد لها وكذلك الأوراق والأختام ومدام عفاف بالدور الرابع.

أرأيت أن تعريف ما البيروقراطية مجرد سفسطة لا جدوى منها!

فتحت حقيبة ظهري؛ لأفتش عن السماعة ولم أجدها، ربما نسيتها في مكان ما! سأضطر هكذا لسماع حوار الرجلين رغما عني خصوصا مع ارتفاع نبرة أحدهم في الكلام

-الرجل ذو المعطف الأزرق : بس يا سيدي نزلت يوم الخميس كان الموظفين خلاص بيقفلوا الخزنة وهيمشوا، واللي خلّص مصلحته من الناس مشي هو راخر!
(راخر) قالها هكذا وما لك علي حلفان.

-الرجل ذو القميص(لم أستطع تحديد لونه لكنه شيك جدًا):

ها وبعدين

-ذو المعطف: ولا قبلين، دخلت على راجل كدا شكله كُبّارة، وعرفته إن صعب ألاقي كل الإقرارات الضريبية المطلوبة ورقي، الإقرارات دي فات عليها سنين! وعرّقته بورقة من إياهم في الدُرج، فط زي الحصان وقالي أنا هخلصلك مصلحتك النهاردة استناني ربع ساعة
ومفيش ربع ساعة وكان جيبلي ورقة المخالصة ممضية من رئيس الهيئة بعد ما لفيت عشان اخلصها شهرين!
ذو القميص: ههههه، برضك الورقة أم 200 سرها باتع
– ذو المعطف: ياعم ولا باتع ولا نيلة هي بقت تشتري حاجة !؟ خلينا ساكتين

بالطبع ما يتحدثون عنه ليس بيروقراطية .
سأسميه “ملوخية” وإن سألتَ عن السبب لا تصاحبني؛ قد بلغت من لدنك عذرا، ثم إني أخشى أن تسألني فأجيب استعارة تصريحية.
تضيف ما الاستعارة التصريحية؟ ويمتد المقال إلى ما لا نهاية!
وقد أخبرتك سابقا أن الكلمات المنتهية ب -يّة- تصيبني بدوار!
راعيني يا جدع..-
نرجع للملوخية -حتى الملوخية آخرها -يّة- ودعك من أنها استعارة تصريحية.
تخيلها بالمعنى الحرفي للكلمة – تلك الأكلة ذات الشهقة والتقلية- كذلك تقلية آخرها -يّة!
الملوخية بالطبع أيسر وأوفر من البيروقراطية وموجودة في مصر حدث ولا حرج بمسميات مختلفة شاي مثلا أو إكرامية _ رشا وغيرهم
لكنها فساد في الأرض؛ وارجع لحرص محمد ﷺ وخلفائه من بعده مع السعاة لجمع الزكاة من الناس.
والبيروقراطية ليست تطبيقا لقول الله -عز وجل- “یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ”
أو قول نبيه ﷺ “يسروا ولا تعسروا”
لا تسألني ما الحل أوالخيار الأصح؛ لأنني حقيقية لا أعرف إجابة لهذا السؤال
لكن إن كنت في ألمانيا وذهبت لتخليص أي شيء من أي مصلحة حكومية، خذ معك كل ما أوتيت من أوراق وكرنيهات، وما إلى ذلك، وكذلك إن كنت في الألسن؛ فمشوار العباسية ليس بهين، تكفي تحويلة العتبة ولا حول ولا قوة إلا بالله
أما إن كنت في -أم العجايب بلد الحبايب- مصر، وذهبت لتخليص أي شيء
خذ معك شايك وسُكّرك وبؤسماطك – إذا لزم الأمر
والسلام أمانة لمدام عفاف….

●طالب بكلية الألسن، تخصص لغة ألمانية، له مدونة باسم “كاتب بيفك الخط”●

عن المؤلف