كتبت: ميرة الرّبّاع.
كانَتِ الأصواتُ مُغريةً ووقْعُ الكلماتِ له دويٌّ عذبٌ وموسيقا رهيفةٌ، عالمٌ ورديٌّ يبدو كالخيال، رسمْنا خارطةً بأناملَ لم تتلطّخْ بشيءٍ بعد؛ لكنّها قرّرتْ حياكةَ الطّريقِ قبلَ أنْ تبدأ بشقّهِ، ازدادَ الشّغفُ لرؤيةِ هذا العالمِ الخارجيّ وكبُرَ الفضولُ وتعمّقَ للتّلذُّذِ بهِ.. عندها عزمْنا المُغادرةَ ونَويْنا الرّحيلَ وأيُّ رحيلٍ كان!
لطالما علِمْنا مُنتهى العلمِ وأشدَّ اليقينِ بأنّنا عابِرون ولسْنا خالِدين.. مُغادِرون يوماً ما ولسْنا باقِين فإنّنا ومع هذا لمْ نزلْ نضعُ الصّممَ على أذُنَينا ندّعي عدمَ المعرفةِ؛ بلْ نتناسى بقصدٍ أنّنا زائِلون، فلقد جِئنا الحياةَ باكِينَ ورغمَ ذلك دخلْناها لِنُصارعَ أنفسَنا ومَن حولنا على ما فيها.. غَفوْنا في الأرحامِ مُنتظرينَ استفاقتِنا على جميلٍ لمْ نَره! خيالٌ بهيٌّ توهّمناه.. غفوةٌ ليسَتْ بطويلةٍ لكنّها لمْ تكنْ قليلةً، سُباتٌ في رحمٍ أحاطَنا بظُروفٍ فيما بعد اكتشَفْنا أنّها الفُرصةُ الذّهبيّةُ الوحيدةُ التي ربّما حصَلْنا عليها، هيّأ لنا ما نحتاجُ ظنّاً منهُ أنّنا سنُلاقي خارجَهُ الأجملَ!
هي بالنّسبةِ للمُحيطِ غفوةٌ لكنّها لمْ تكنْ كذلك!.. شعرْنا بكلِّ شيءٍ حولَنا وأحسَسْنا بكلِّ ما حدثَ خارجَ ذلك الجدارِ اللّحميّ.. فكمْ كانَتْ ضِيافةً عظيمةً أن تجلسَ في أحشاءِ الإنسانِ الأعظمِ الّذي تعلمُ أنّهُ لنْ يتخلّى عنكَ يوماً مهما قسَتِ الظُّروفُ، تجلسُ بهدوءٍ ونعيمٍ لسْتَ مُطالَباً بشيءٍ فقط عليكَ أنْ تكونَ بخيرٍ! لكنْ وما على الضّيفِ إلّا الرّحيل، ركلْنا ذاكَ الجدارَ الذي أسَرْنا أيّاماً مُظلمةً، خرَجْنا منهُ ودخَلْنا في صحوةٍ لمْ نعتدْ عليها.. ضجيجٌ وضوضاءُ ووجوهٌ تشتكي الحوباءُ، عيونٌ غريبةٌ تُحدّقُ هُنا وهُناك وأصواتٌ تتعالى منها الفَرِحُ ومنها مَن يَتباكى، أشياءُ خفيّةٌ أشبهُ بالطّلاسمِ لم تُفهمْ بعد إلى أنْ بدأ الصّراعُ (صراعُ الوجود) معَ الذّاتِ والمُحيط.. بدأ الشّهيقُ يأخذُ مجراهُ في كلِّ مكانٍ وبدأتِ المشقّةُ الحقيقيّةُ تُعلنُ سيطرتَها كيفَ لا وأنتَ في حضرةِ الواقع! تمرُّ اللّحظةُ كأنّها عُمرٌ ويمرُّ العُمرُ كأنّه لحظةٌ.. الفرقُ في ذلك يُحدّدهُ الشّعور.. ربّما يتبادرُ إلى أذهانِنا هل هذا ما صارعْنا من أجلهِ، هل هذا ما نستحقّهُ في دُنيانا التي حسِبْناها النّجاة!؟ تلكَ الصّحوةُ لمْ تكنْ بالمجّان.. شظايا الجسدِ وبعثرةُ الرّوحِ ولُهاثُها.. الانكساراتُ والخَيباتُ والظُّلماتُ.. الواقعُ الذي وقعَ على أنفاسِكَ والذي حالَ دون رغباتِكَ الجَامحة.. الواقعُ الذي صمدْتَ فيهِ ومعهُ ومن أجلهِ.. كلُّ هذا ثمنُ ركلةٍ كُنتَ مُجبراً عليها لأنّك اتّسمْتَ بالنُّضوجِ في بيئتِكَ الأولى!، فما عادَ جسدُكَ يقوى ولا روحُكَ تهوى.. والآن إلى غفوتِكَ الأبديّة حيثُ راحتُكُ كما كانَتِ الأولى!.
المزيد من الأخبار
الركن الآمن
غربت الهدنة
أكتب أنا!