مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

رواية أميرة الصمت الحزين (الجزء الثاني) بقلم إيمان يوسف أحمد 

رواية أميرة الصمت الحزين (الجزء الثاني) بقلم إيمان يوسف أحمد

 

الصفحة 51

لم تنم ليان تلك الليلة، ظلت جالسة أمام النافذة تتأمل المدينة الغارقة في الظلام.

كل شارع يذكرها بوجوه، بعضها أحبتها وبعضها تمنت لو لم تعرفها أبدًا.

في داخلها حرب لا تهدأ، بين فتاة كانت تحلم بالحب، وامرأة صارت تحمل الموت على كتفيها.

كتبت في دفترها: “أحيانًا لا نختار أن نصبح أبطالًا… بل نصبح بقايا معارك لم نخضها بإرادتنا.”

الريح صفعت وجهها برفق، لكنها شعرت أنها صفعة القدر.

كانت تعرف أن النهاية تقترب، ولم يبقَ سوى خطوة واحدة.

خطوة قد تجعلها أسطورة… أو تتركها مجرد اسم في سجل الموتى.

ابتسمت بمرارة وقالت: “أنا لا أهرب… أنا أنتظر.”

(51)

 

 


 

الصفحة 52

مع أول ضوء للفجر، جاءتها رسالة جديدة: “نحن هنا… نراكِ.”

ارتعشت يدها للحظة، لكنها تماسكت سريعًا، كأنها لم تعد تعرف الخوف.

خرجت إلى الشرفة، رفعت يدها نحو السماء، وقالت بصوت مسموع:

“تعالوا… هذه المدينة لا تسعنا معًا.”

شعرت أن آدم يقف بجوارها، صمته يملأ المكان.

أغمضت عينيها، وتخيلته يلمس كتفها بحنان.

همست: “إن مت، سأموت على صورتك، وإن عشت، فسأعيش لذكراك.”

ثم عادت للداخل، تحمل في قلبها قرارًا لا عودة فيه.

(52)

 

 


 

الصفحة 53

اجتمع رجال سليم القدامى، قرروا الانتقام، وأعلنوا أن ليان هي الهدف.

لكنها لم تهرب، بل أرسلت لهم رسالة: “موعدنا الليلة.”

كمال حاول أن يوقفها، توسّل إليها: “دعيني أهرب بك بعيدًا، الحياة لا تستحق كل هذا.”

لكنها هزت رأسها بقوة، وقالت:

“الحياة لا تستحق إن لم ندفع ثمنها… وأنا اخترت أن يكون ثمني دمًا.”

كانت كلماتها كسيوف، حادة وقاطعة، تترك خلفها صدى مرعبًا.

كمال بكى، شعر أن حبها له كان مستحيلًا منذ البداية.

أما هي، فكانت تنظر بعيدًا… حيث النهاية تنتظرها.

(53)

 

 


 

الصفحة 54

الليل حلّ، والمدينة سكنت، إلا قلبها الذي كان يشتعل.

ارتدت ثوبًا أسود طويلًا، كأنها تلبس جنازة مسبقة.

خبأت السكين الصغيرة تحت ملابسها، ليس دفاعًا، بل عهدًا أن لا تُؤخذ ضعيفة.

في المرآة رأت عينيها، لم تعد تلك الفتاة البريئة، بل امرأة وُلدت من النار.

قالت لنفسها: “أنا لست ابنة سليم… أنا لعنة سليم.”

مشَت بخطوات ثابتة، كأنها تمشي على حافة قدر مكتوب.

كل زاوية مظلمة في الشوارع كانت تراقبها.

لكنها لم ترتبك، بل ابتسمت في تحدٍ.

(54)

 

 


 

الصفحة 55

وصلت إلى المكان المتفق عليه، مستودع قديم على أطراف المدينة.

رجال كثيرون كانوا في انتظارها، وجوههم قاسية، وعيونهم تلمع كوحوش جائعة.

وقف أحدهم يصرخ: “اليوم تموتين كما مات سيدك.”

لكنها تقدمت خطوة، ورفعت رأسها عاليًا:

“أنا لم آتِ لأموت… بل جئت لأدفن إرثه معكم.”

الهدوء ساد لثوانٍ، قبل أن ينفجر كل شيء.

الصرخات تعالت، الأيادي ارتفعت بالأسلحة، والظلام ابتلع الأصوات.

كانت تلك بداية معركة لا عودة بعدها.

(55)

 

 


 

الصفحة 56

صوت الطلقات مزق صمت الليل.

لكن ليان تحركت بخفة، كأنها طيف لا يُمسك به.

طعنة هنا، صرخة هناك، والدماء سالت كالنهر.

كل خطوة كانت تقترب بها من حريتها، أو من موتها.

في قلبها لم يبقَ سوى صورة آدم، كأنه هو من يمنحها القوة.

صرخت بأعلى صوتها: “هذا دمي… وهذه حريتي!”

الرجال تراجعوا، بعضهم سقط، والبعض الآخر هرب.

أما هي، فكانت واقفة وسط الدماء، عيناها تلمعان بجنون.

(56)

 

 


 

الصفحة 57

لكن جسدها لم يعد يحتمل.

الدم يسيل من جرح في كتفها، وركبتاها ترتجفان.

سقطت على الأرض للحظة، وعيناها تنظران إلى السماء.

رأت وجه آدم يبتسم لها من الغيوم.

همست: “انتظرني… لم يبقَ الكثير.”

ثم نهضت مرة أخرى، كأن روحًا جديدة سكنت جسدها.

اقتربت من آخر رجل يقف أمامها، وقالت له ببرود:

“قل لظلكم… أن الضوء لا يموت.”

وغرزت سكينها في صدره.

(57)

 

 


 

الصفحة 58

حلّ صمت ثقيل بعد أن انتهت المعركة.

الجثث متناثرة، والريح تعصف كأنها تغسل المكان من الدم.

ليان وقفت وحيدة، جسدها يرتجف، ويديها ملطختان بالدماء.

كتبت بجدار المستودع بكفها: “هنا دفنت سلالة سليم.”

ثم خرجت بخطوات بطيئة، لكن كل خطوة كانت إعلانًا عن انتصار.

أدركت أن النهاية لم تعد بعيدة، فقد أحرقت آخر الجسور.

وكل ما تبقى لها هو أن تواجه نفسها.

(58)

 

 


 

الصفحة 59

عادت إلى بيتها المظلم.

جلست أمام الدفتر الأسود للمرة الأخيرة.

كتبت: “لقد انتصرت… لكن قلبي مات مرتين، مرة مع آدم، ومرة مع أبي.”

دموعها انهمرت على الصفحات، حتى محَت بعض الكلمات.

ابتسمت وسط الدموع وقالت: “يا آدم… إن كنت تسمعني، فاعلم أنني اخترت أن أعيش على صورتك، وأموت على صورتك.”

ثم أغلقت الدفتر، كأنها أغلقت عمرًا كاملًا من الألم.

(59)

 

 


 

الصفحة 60

في الصباح، وُجدت ليان نائمة على مكتبها، والدفتر بين يديها.

البعض قال إنها ماتت، والبعض الآخر قال إنها رحلت بعيدًا عن المدينة.

لم يعرف أحد الحقيقة… لكن اسمها صار أسطورة تتناقلها الألسن.

“أميرة الصمت الحزين… العروس التي كسرت العروش بدموعها.”

أما الدفتر الأسود، فظل شاهدًا صامتًا على كل شيء.

آخر جملة مكتوبة فيه كانت:

“حين يظن الجميع أنني انتهيت… سأبدأ من جديد في قلوبهم.”

وبهذا انتهت الحكاية… لتبدأ حكاية أخرى في الذاكرة.

(60