خذلان
بشرى إياد
كنتُ أظنّ أنّ الأرواح حين تتعاهد، تُصبح كالأوطان؛ لا تُباع ولا تُهدَم.
لكنّي اكتشفت أنّ بعض الأوطان لم تكن إلا خيالًا من قشّ، ينهار مع أول ريح.
ما أقسى أن تُسلِّم قلبك لمن ظننتَه أمانًا، فتكتشف أنّه كان العاصفة.
أن تمنحه مفاتيح جروحك ليحرسها، فيفتح بها أبواب نزيفٍ جديد.
أن تترك له ظهرك اتّكاءً، فيغرس فيه خنجرًا باسم الحنان.
الخذلان لا يجيء دفعةً واحدة…
إنّه يقطر كالمطر البارد على روحك، يطفئ شموعك واحدةً تلو الأخرى، حتى تُدرك أنّك وحيد في عتمةٍ لم تختَرها.
والمرير فيه، أنّك ترى وجوههم كما هي، نفس الابتسامة، نفس الصوت، لكن خلف الأقنعة… لا أحد.
مجرد خواءٍ يتغذّى على ضعفك، ينهشك بصمت، وكأنّك لم تكن يومًا أكثر من ظلّ عابر في حكايتهم.
الخذلان هو أن تدرك أنّك أحببت مرآةً مشروخة، وكل انعكاسٍ رأيتَه لم يكن إلا خداعًا.
أن تصحو فجأةً على حقيقةٍ مُرّة: أنّك كنتَ تقاتل لتُنقذ غريقًا، بينما هو يدفع رأسك للأسفل.
أقسى ما في الخذلان أنّه يأتي من أقرب الطرق… من أولئك الذين حفظتَ أصواتهم كالأذان، وأقمتَ في عيونهم صلواتك.
تكتشف فجأة أنّهم لم يكونوا ملاذًا، بل دهليزًا مظلمًا يقودك إلى هاويةٍ بلا آخر.
الخذلان علّمني أن الجدار الذي تحتمي به قد يسقط، وأن اليد التي تنتظرك قد تُصفّق لغيابك.
علّمني أن لا أمدّ وجعي على طاولة أحد، لأنّ الناس لا يُجيدون الإصغاء إلا للضحكات.
علّمني أن القلوب التي كُنتُ أراها نجومًا، لم تكن سوى شظايا زجاجٍ يلمع في العتمة، ويجرح حين تلمسه.
واليوم… أقف أكثر صلابة، أكثر وعيًا.
لم أعد أبحث عمّن يمنحني الأمان، بل عمّن لا ينتزعه منّي.
لم أعد أبحث عن ظلٍّ أستظلّ به، بل أصبحت أنا الشجرة والجذر والسماء.
فيا مَن خذلتموني…
اعلموا أنّكم لم تتركوني وحيدًا كما ظننتم، بل تركتموني في مواجهة ذاتي، وهناك وجدت كل ما فقدت.
تركتموني مع مرآتي، فتعلمت أن أرى وجهي بلا أقنعة.
تركتموني مع صمتي، فاكتشفت أنّ الصمت أصدق من ألف وعد.
تركتموني مع ندبي، فصار كل ندبة وسامًا يذكّرني بأنّني نجوت.
الخذلان يا سادة، ليس نهايتي… بل بدايتي.
إنّه الشرارة التي فجّرت في داخلي بركانًا، لا يُطفئه غيابكم، ولا تقدرون أن توقفوا زلزاله.
خذلانكم كان موتًا صغيرًا… أمّا أنا، فقد ولدت بعده بحجم السماء.
وها أنا الآن… أعلم أنّ الحياة لا تُقاس بمن أحبّك، بل بمن نجوت منه.
وأني أرقى كل سقوطٍ إلى سماءٍ، كل جرحٍ إلى نور، وكل خذلانٍ إلى حكمة…
فليعلم العالم أنّ من صمد بعد أن خذلته القلوب، صار أعظم من كل قلوبٍ خذلته.






المزيد
شيء يُضاهي التلاقي، ولا شيء يُشبه نظرة الإنسان إلى الإنسان بقلم إيثار الباجوري
الحروب دمار القلوب بقلم مريم الرفاعي
لا يستحق أحد التضحية بقلم سها مراد