إعداد وحوار: أسماء مجدي قرني
عندما تمتزج الموهبة بالفكر، وتلتقي الحروف بروحٍ تؤمن بالكلمة، تولد كاتبة استثنائية تُجيد أن تترك بصمتها في كل نص تكتبه.
إنها أمل سامح يوسف محمود، كاتبة لا تمرّ مرور العابرين، بل تفرض حضورها بهدوء الواثقين، وتترك في القارئ أثرًا لا يُمحى.
تمتلك أسلوبًا يفيض عذوبةً وعمقًا، تكتب بعقلٍ ناضج وقلبٍ يقطر إحساسًا، تجمع بين الرقة والقوة في توازنٍ نادر يجعل نصوصها تنبض بالحياة.
حديثها يجذبك كما تجذبك كتاباتها، فهي تمنح الكلمة روحًا من وهجها، وتغزل من اللغة عالَمًا يليق بجمال فكرها.
وفي هذا الحوار المميز، نقترب من عالمها الإبداعي لنكتشف أسرار قلمٍ كتب لنفسه المجد، وللكلمة مكانتها الرفيعة.
بدايةً، حدّثينا عن نفسكِ بإيجاز:
أنا أمل سامح يوسف محمود، وُلدتُ في السابع من يوليو عام 1996، في منطقة الهرم بمصر.
تخرّجتُ في كلية التجارة، قسم إدارة الأعمال، لكنّ شغفي لم يكن يومًا بالأرقام، بل بالكلمات التي تسكن الأعماق وتُضيء العتمة.
منذ سنواتي الأولى، وجدت في الكتابة ملاذي الآمن، أعبّر بها عمّا يختبئ خلف الصمت، وأرسم بها العوالم التي لا تُرى إلا بالقلب.
أنا كاتبة روايات وقصص قصيرة وشاعرة، أكتب لأنني أؤمن أن لكل شعورٍ لغة، ولكل وجعٍ صوتًا، ولكل حكايةٍ حقّها أن تُروى.
قلمي هو مرآتي، وورقي هو العالم الذي أتنفّس فيه، حيث تختلط الخيالات بالحقائق، والمشاعر بالعتمة، والنور بالظل، لتولد حكاياتي نابضة بالحياة، صادقة كنبضة القلب الأولى.
ـكيف اكتشفتِ شغفكِ بالكتابة؟ ومتى بدأتِ أولى خطواتكِ في هذا المجال؟
منذ الخامسة عشرة، كان لي دفترٌ يشبهني أكثر ممّا يشبه الورق، دفترٌ كنت أودِع فيه ما لا أستطيع قوله، وما يختنق في صدري قبل أن يصبح دمعةً أو صرخة.
كل صفحةٍ منه كانت ممرًّا سرّيًا بيني وبين نفسي، أهرب إليها كلّما ضاق بي العالم أو غابت ملامحي في زحام الأيام.
كنت أكتب كما لو أنّ الحروف تفهمني، كما لو أنّ الورق يسمع أنيني دون أن يسأل. كنت أكتب لأشفى… لا من الآخرين، بل منّي.
فالكتابة كانت دائمًا صديقتي التي لا تخون، ومرآتي التي تُريني حقيقتي دون زيف.
تحت ضوءٍ خافت، كنت أترك روحي تفيض فوق السطور، حتى بدا الدفتر ككائنٍ حيّ يتنفّس حزني، ويحفظ أسراري بين صفحاته الصفراء.
ومن بين تلك الحروف الأولى… وُلدت الكاتبة التي أنا عليها اليوم.
حدّثينا عن أبرز أعمالكِ الأدبية أو مشاركاتكِ التي تعتزّين بها.
لم أكتب يومًا لأُبهِر أحدًا… كتبتُ فقط لأُبقي نفسي حيّة.
حين ضاقت بي الأصوات، وجدت في الحروف وطنًا لا يخذلني، وسماءً تتّسع لكلّ ما عجزتُ عن قوله.
كانت البداية مع «دواوين سنين الغياب» عام 2024، كتابٌ لم يكن مجرّد حروفٍ على ورق، بل اعترافٌ طويل المدى، صرخةُ قلبٍ ظلّ مختبئًا طويلًا خلف ابتسامةٍ صامتة.
هو ابني البِكر، أول ما نطقت به روحي، وأول ما نزفت به ذاكرتي.
ثم وُلدت «غيوم القلب» عام 2025… عملٌ تناثرت فيه أسرار العاطفة، وجراح الصمت، وآهات القلوب التي تتظاهر بالثبات وهي تتآكل من الداخل.
كتبتُ فيه عن تلك المساحات التي نخفيها حتى عن أنفسنا، حيث لا يُسمع صوت الوجع إلا همسًا، ولا يُرى إلا بين السطور.
وفي ما بين هذين العملين، تسلّلت قصصي إلى المجلات الإلكترونية، تحمل بصمتي وبقايا من عالمي؛ منها «أطفال الركام» التي وُلدت من رماد الألم، و«جنيّ العاشق»التي تنبض بهوسٍ غامض بين الحب والرعب، و«من القاتل؟» التي تهمس للظلام بأن الحقيقة ليست دومًا ما نراها.
كل حرفٍ كتبته كان مرآةً لروحٍ تقف على الحافة بين الحنين والهاوية، وكل عملٍ هو محاولةٌ للنجاة منّي…
أنا التي وجدت في الكتابة ملاذًا من ضجيج العالم، ومرآةً لليلٍ يسكنني منذ زمنٍ بعيد
ـ ما هو العمل الأدبي الذي تعتبرينه الأقرب إلى قلبكِ حتى اليوم؟ ولماذا؟
هو كتابٌ لم يرَ النور بعد… ما زال مختبئًا في عتمة الحبر، ينتظر لحظة الميلاد في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2026.
تأخّر ظهوره لأن بين صفحاته قلوبًا احترقت ولم تنطفئ، ومشاعرَ وُلدت من رماد الفقد، وذكرياتٍ ما زالت تنزف رغم مرور الزمن.
لم أكتبه كما تُكتب الكتب… بل كما ينزف القلب حين لا يجد خلاصًا.
كل كلمةٍ فيه تحمل ظلّ حنينٍ قديم، ووجعًا لا يُقال، وصدى صرخةٍ حاولت أن تخمدها داخلي فاستحالت نارًا على الورق.
هو كتابٌ قاتم الملامح، دافئ الجرح، يجمع بين البكاء الصامت والبوح الموجع، بين الرماد والنور، بيني… وبيني.
فيه ستجدونني كما لم تعرفوني من قبل، وجهي الحقيقي حين أسقط القناع، حين أكتب لأحيا لا لأُقرأ.
ربما تأخر ظهوره لأن بعض الكتب لا تولد إلا بعد أن تحترق أرواحنا بما يكفي…
وبعض الحروف لا تُكتب إلا حين يصبح الألم لغةً تُنقذنا منّا.
هل الكتابة بالنسبة لكِ هواية أم وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار؟
لم تكن الكتابة يومًا هوايةً عابرة، بل كانت نزفًا هادئًا في عروق الحبر، وصرخةً مؤجلة يختبئ خلفها قلبٌ أثقلته الجروح.
كل من يمسك القلم لا يكتب لينجو… بل لأنه لم يجد طريقًا آخر للنجاة.
القلم ليس وسيلة تعبير، بل سكينٌ تغرسها في صدرك لتُخرج ما يؤلمك دون أن تموت.
هو العزاء الوحيد حين يرحل الجميع، والمأوى الأخير حين تضيق بك نفسك.
من لا يشعر بوجع الحرف لا يُسمّى كاتبًا، ومن لم يختبر عتمة المشاعر لا يستطيع أن يُضيء قلب أحد.
الكتابة ليست عن ذاتك فقط، بل عن كلّ من نزف بصمت، وابتلع خيبته، وابتسم كي لا يُفضَح وجعه.
أن تكتب، يعني أن تتحوّل إلى مرآةٍ لآلام الآخرين، أن تنزف بدلًا عنهم، أن تُصبح أنت الوجع الذي لا يجرؤون على تسميته.
فالكاتب الحقيقي لا يعيش بين السطور… بل يحترق ليضيئها.
من هم الأشخاص أو الكتّاب الذين تركوا أثرًا في مسيرتكِ الأدبية؟
في رحلة الحبر والوجع، لم أسِر وحدي… كان هناك رجلٌ واحد يشبه المأوى حين تتيه الطرق، هو خالي مصطفى محمود — الداعم الأول، والظلّ الذي احتميت به كلّما تهاوت قراراتي، والصوت الذي يُعيدني إلى ذاتي حين أفقد ملامحها.
كان حضوره بوصلةً خفيّة تُشير دائمًا إلى الاتجاه الذي لا تراه العيون، بل تشعر به الأرواح.
أما الذين تركوا بصمتهم في عمق روحي، فهم أولئك الذين لم أقرأهم فقط… بل عشتُهم.
نجيب محفوظ علّمني أن العمق يسكن التفاصيل الصغيرة، وأن الإنسان هو روايةٌ لا تنتهي.
فيودور دوستويفسكي فتح لي أبواب الظلام لأفهم كيف يسكن النور في قلب العتمة.
وجبران خليل جبران جعلني أؤمن بأن الحزن فنّ، وأن الجمال أحيانًا يولد من الألم.
هم لم يتركوا أثرهم على كلماتي فحسب، بل نقشوا حضورهم في صمتي، في حزني، في الطريقة التي أكتب بها العالم.
علّموني أن الكتابة ليست اختيارًا… بل قدرٌ نولد به، ونُعاقَب به أيضًا.
برأيكِ، ما هو التحدي الأكبر الذي يواجهه الكاتب في عصرنا الحالي؟
أقسى ما قد يواجهه الكاتب في بدايات طريقه هو غياب الدعم من أقرب الناس إليه، ذلك الإحباط الذي يتسلّل من كلماتٍ كان يظنها ستمنحه القوة، فإذا بها تُطفئ شرارة حلمه الأولى.
كثيرًا ما يأتي الخذلان من رفيقٍ في المجال نفسه، أو من جهاتٍ كان يُفترض أن تحتضن المواهب الشابة وتمنحها الأمل، لكنها بدلًا من ذلك تُغلق الأبواب في وجوههم، فتنطفئ الأحلام الصغيرة قبل أن تتعلّم النهوض.
الكاتب في بداياته لا يبحث عن شهرة، بل عن يدٍ تمتدّ إليه، وكلمةٍ تُخبره أن صوته مسموع.
لكنه يصطدم بواقعٍ قاسٍ، حيث لا يجد من يشتري أعماله أو يؤمن بموهبته، فيتسلّل الإحباط إلى قلبه قبل أن يُكمل خطوته الأولى.
ومع ذلك، يبقى من يكتب صادقًا مع ذاته، يكتب لأن الكتابة قدره لا مفرّ منه، ولأن الحرف — مهما تجاهله الآخرون — سيظلّ وطنه الأصدق.
كيف ترين العلاقة بين القارئ والكاتب؟ وهل تحرصين على التواصل مع قرّائكِ؟
أرى أنّ على الكاتب أن يبقى دائمًا على تواصلٍ مع قرّائه، ليعرف ما يحبّونه، وما يلامس قلوبهم ويعبّر عن مشاعرهم.
فالقارئ هو البوصلة التي تُرشد الكاتب وسط عواصف الإلهام والتعب، وهو المرآة التي يرى فيها صدق أثر كلماته.
لذلك، أحرص دائمًا على الاقتراب من القرّاء، أنصت إليهم، وأفهم ما يحرّك مشاعرهم وما يضيء في أعماقهم، لأن الكتابة دون تواصلٍ حقيقي معهم تفقد دفأها، وتتحوّل إلى حروفٍ جامدة لا تنبض بالحياة.
فالكاتب بلا قارئٍ يشبه نجمةً تلمع في سماءٍ خالية… جميلة، نعم، لكن لا أحد يراها.
ما هي أحلامكِ المستقبلية على المستوى الأدبي؟ وهل هناك مشروع جديد تعملين عليه؟
أنا لا أطمح إلى الشهرة، فالشّهرة زائلة كوهجٍ مؤقّتٍ في ليلٍ طويل، بل أطمح إلى ما هو أعمق من ذلك…
أطمح أن أترك بصمتي في كلّ قلبٍ قرأ لي حرفًا، أن تكون كلماتي طوقَ نجاةٍ لروحٍ كانت تغرق في صمتها، أو لمسةَ دفءٍ لقلوبٍ أنهكها البرد.
لا أكتب لأُرى، بل لأُشعِر. لا أبحث عن التصفيق، بل عن تلك اللحظة التي يتوقّف فيها القارئ قليلًا، ويقول في نفسه: «كأنها تكتبني».
ذلك هو مجدي الحقيقي… أن تصل كلمتي إلى قلبٍ لم أره، فتُحييه من جديد.
أن أترك أثرًا لا يُمحى بالحياة ولا بالنسيان، أن أكون بين السطور كما تكون الروح في الجسد: خفيةً، لكنها نابضة بالحياة.
مشاريعي الأدبية لعامٍ جديدٍ من الحلم والكتابة:
أحمل في جعبتي العديد من المشاريع الأدبية التي ستخرج إلى النور بإذن الله، أبرزها ديواني القادم بعنوان «إلى من دفنني حيًّا وما زال يسكنني» — ديوانٌ يفيض وجعًا، ويقطر صدقًا، يجمع بين الموت العاطفي والحياة التي تظلّ تبحث عن معنى.
هو حكاية روحٍ لم تُدفن رغم التراب، وصوتِ امرأةٍ عاشت بين الرماد وما زالت تكتب لتتنفّس.
ذلك الديوان ليس مجرّد نصوصٍ شعرية… بل هو مرآةُ روحٍ تكسّرت ثم أعادت بناء ذاتها من شظاياها، حروفه نزفٌ أنيق، وصراخٌ مكمّم بوشاح الجمال.
أما قلمي… فما زال يكتب، وسيظل يكتب، ما دام في القلب نبضٌ، وفي الصمت حكايةٌ تنتظر الولادة.
ما النصيحة الذهبية التي تقدّمينها لكلّ شخص يمتلك موهبة الكتابة ويرغب في تطويرها؟
إلى كلّ من حمل القلم ليحكي ما عجز عنه الصوت… أغلق أذنيك عن أصوات النقد، وتجاهل من يحاول أن يُطفئ وهج حلمك.
فالنور الذي يسكنك لا يحقّ لأحدٍ أن يطفئه، والحلم الذي خُلِق في داخلك لا يُطفأ بكلمةٍ عابرة.
ابحث في أعماقك عن الحقيقة، عن النبض الأول الذي جعلك تكتب، عن تلك الشرارة الصغيرة التي جعلتك ترى العالم بحبرك لا بعينيك.
واكتب بصدقٍ، لأن الصدق وحده ما يجعل الحروف تنبض حياةً وتصل إلى القلب قبل العين.
اكتب لأن الكتابة خلاصٌ، لأنّها نجاةٌ من الغرق، اكتب لأنّ فيك ما يستحق أن يُقال، ولا تنتظر تصفيقًا من أحد، فالحروف الصادقة تُصفّق لها القلوب بصمتٍ عميق.
واذكر دائمًا… أنّ الكاتب الحقّ لا يُقاس بعدد قرّائه، بل بعدد القلوب التي غيّرها حرفٌ من حروفه.
هل تودّين توجيه كلمة لقرّاء مجلة إيڤرست؟
إيڤرست… المكان الذي احتضن موهبتي لأول مرة، وكان البداية التي منحتني الإيمان بأن للحلم جناحين، وأنّ هذا المكان لا يجمع المواهب فحسب، بل يصنع منها نجومًا تؤمن بذاتها وتُضيء الطريق لغيرها.
وأخيرًا، كيف كانت تجربتكِ معنا في هذا الحوار؟
لقد كانت تجربة ممتعة للغاية، عشتُ فيها تفاصيل جميلة لا تُنسى، واستمتعتُ بكلّ لحظةٍ منها كأنها رحلةٌ من الإلهام والفرح.
كانت تجربةً تركت في نفسي أثرًا عميقًا، وجعلتني أؤمن أكثر بأنّ لكلّ خطوةٍ نخوضها طعمًا خاصًا من السعادة حين نعيشها بصدق.






المزيد
مهزلة أن تكون أنت: رحلة الحبر والأمل مع ملاك يحيى عبدالله النجار
شباك العنكبوت: حوار مع سيف الإسلام هليل
الفنانة التونسية إيمان آدم تتحدث عن نجاحها وأسرار جديدة في مشوارها الفني