مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب بقلم الكاتب هانى الميهى

الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب بقلم الكاتب هانى الميهى

الفصل التاسع: صمت الهارب.. وضجيج المطارد

 

🔹 الجزء الثالث

في العلاقات التي تصل إلى هذه المرحلة من الصمت والضجيج،

لا يكون الخطر في الكلام أو السكوت،

بل في “ما لم يُقال” بينهما،

في تلك الجُمل المبتورة التي اختنقت قبل أن تُولد،

وفي كل شعورٍ دفن نفسه خوفًا من سوء الفهم.

الهارب يهرب من مواجهةٍ يعلم أنها ستكسره،

والمطارد يطارد ليمنع انكسارًا يشعر أنه قادم لا محالة.

كلاهما يخاف، لكنّ خوفهما يسير في اتجاهين متضادين.

الأول يخشى البقاء، والثاني يخشى الرحيل.

الأول يبحث عن السلام، والثاني عن الطمأنينة،

وكلاهما لا يدرك أن السلام والطمأنينة لا يجتمعان أبدًا

حين يكون أحدهما سبب قلق الآخر.

المطارد في لحظات ضعفه يسأل نفسه:

“هل لو توقفتُ عن السعي، سيفتقدني؟”

والهارب، في وحدته، يتمتم بهدوءٍ مؤلم:

“هل لو عدتُ، سيقبلني كما أنا؟”

أسئلةٌ لا تُطرَح بصوتٍ عالٍ،

لكنها تسكن الليل حين ينام الجميع.

أسئلة تلد الصمت من رحم الخوف،

وتنجب الوجع من رحم الحنين.

أيها القارئ،

الصمت ليس دائمًا جدارًا يُشيَّد بين قلبين،

أحيانًا يكون جسرًا يحاول أحدهما أن يعبره دون أن يسقط.

لكن المشكلة أن الطرف الآخر يراه انسحابًا، لا عبورًا.

يظنه تخلّيًا، لا محاولةً للفهم.

ومن هنا تبدأ المسافات،

ويبدأ “الوجع المحترم” الذي لا ضجيج له،

ذلك النوع من الألم الذي لا يُرى،

لكنه يُغيّر ملامح الإنسان من الداخل دون أن يلمسه أحد.

إن أخطر ما في العلاقة بين الهارب والمطارد

أن كلاهما يظن أنه وحده المتألم،

بينما الحقيقة أنهما يتناوبان الجرح بصمتٍ نبيل،

كلٌّ على طريقته، وكلٌّ بطريقته الخاصة في الفقد.

🕊️ الهروب لا ينفي الحب، والمطاردة لا تؤكده،

لكنّ الصمت يختبر صدقهما أكثر من أي كلماتٍ قيلت.