مجلة ايفرست الادبيةpng
...

مجلة ايفرست

مجلة ايفرست الأدبية

أسيرة الضوء الزائف بقلم أمجد حسن الحاج 

أسيرة الضوء الزائف بقلم أمجد حسن الحاج

 

يا لَها من قيودٍ لا تُرى، وأغلالٍ تلمع ببريقٍ خادعٍ من ضوءٍ زائفٍ يتسلّل من شاشةٍ صامتةٍ تُمارس أبشع أنواع الأسر!

كانت في البدء تبحث عن الدفء في العالم الرقمي، عن كلمةٍ تُشعرها بالطمأنينة، عن وجهٍ يُبادلها ابتسامةً تُنقذها من وحشةِ المساءات الطويلة، لكنها لم تدرك أنّها كانت تسير نحو سجنٍ واسعٍ يبتلع أنفاسها رويدًا رويدًا.

تشدُّها الأضواء البيضاء كما يشدُّ البحرُ الغريقَ إلى أعماقه، تُقاوم بنبضٍ خافت، تتلوّى روحُها بين حنينٍ وانكسار، بين رغبةٍ في التحرّر وخوفٍ من الفراغ الذي سيخلفه الغياب.

سُرقت منها لحظاتُها الصغيرة، تآكلَ الوقتُ في أصابعها، صارت تُقلب الصفحات كما يُقلب الأسيرُ جراحَه بحثًا عن خلاصٍ مؤجل.

كلّ إشعارٍ سلاسلُ جديدة، كلُّ صوتٍ صادرٍ من تلك العلبة اللامعة نداءُ عبوديةٍ مستتر، وكلُّ لحظةِ انحناءٍ أمامها انحناءةُ خضوعٍ لسلطةٍ خفيةٍ تتغذّى على وعي الإنسان.

كم من الأحلام ضاعت في دهاليزها؟ كم من الأرواح تاهت في بحرها البارد؟ كم من ابتسامةٍ حقيقيةٍ انطفأت تحت وهجها المصطنع؟

المرأة في الصورة ليست سوى مرآةٍ لعصرٍ يقدّس الارتباط بالوهم، ويُقيّد القلب بخيوطٍ من ضوءٍ لا يُدفئ ولا يُضيء الطريق.

تتقدّم نحو الشاشة كمن يسير إلى قدره، والقيود تشدّها إلى الوراء كأنّها تُحاول التذكير بأنّ الحياة ما زالت هناك، خلف الأسلاك، خلف الوهج، خلف الزيف.

لكنها لا تسمع… فقد غلب الصمتُ صدى النداء الإنساني في داخلها، وسُحبت روحها شيئًا فشيئًا نحو العدم الجميل، نحو السجن الذي صُنِعَ بيديها.

يا لتلك المفارقة المريرة… عبدةٌ لجهازٍ ظنّته وسيلة حرية، وسجينةُ عالمٍ صنعته لتتخلّص من وحدتها فزادها وحشة!

إنها ليست هي وحدها، بل نحن جميعًا… نحمل في جيوبنا سجوننا الصغيرة، نغلق بها أبوابَنا على أنفسنا، نُطفي أنوارَ النهار لنُشعل وهجًا لا حياةَ فيه.

ألسنا نحن من وضعنا القيود؟ ألسنا نحن من منح الضوءَ سلطانه؟

إنّ النجاة ليست في الهرب من التقنية، بل في ألا نتركها تسرقَ منا إنسانيتنا، في أن نُعيد لأناملنا لذّةَ اللمس الحقيقي، ولأعيننا دفءَ النظر إلى الوجوه، ولقلوبنا سكينةَ اللقاء البشري الصادق.

 

فلتكسر المرأة قيودها قبل أن تذوب في وهجٍ لا يرحم،بدد ولتطفئ ذلك الضوء قبل أن يُطفئها.

فما أقسى أن يُنادى الإنسان من شاشةٍ، فيُجيبها، ناسياً أنه هو الأصل، وهي الصدى!